“الشرعية” وثقافة بيع السيادة
يمنات
لقمان عبد الله
أكدت الأحداث الأخيرة في اليمن أن القيادة السياسية لما تسمى «الشرعية»، ممثلة بحكومة أحمد عبيد بن دغر، والمعارضة المناوئة لها التي يقودها «المجلس الانتقالي الجنوبي»، ذابتا في المصلحتين السعودية والإماراتية، ووصل بهما التماهي مع الأجندات الخارجية إلى درجة الاستعداد لخوض معارك دامية لا تتوافق بالمطلق وقضاياهم.
لا تقتصر تبعية النخبة السياسية، سواء لدى «الشرعية» أو الطرف الجنوبي المعارض لها، على توفير الغطاء الشرعي للحرب وتزويد دول «التحالف» بالمدد البشري الكافي للاستمرار في القتال وتغذية الجبهات شمالاً وجنوباً، والقبول بجعل أبناء جلدتها وقوداً لأهداف لا تخدم قضايا اليمن وسيادته، بل إن تلك النخبة، التي كشفت الوثائق المسرّبة (سابقاً) أنها تتلقى مبالغ مالية كبيرة مقابل خدمات تسديها للسعودية، تسمح اليوم لكل من الرياض وأبو ظبي باقتحام ما تبقى من مؤسسات الدولة، في عملية ممنهجة تستهدف إظهار عجز اليمنيين ومحدودية قدرتهم على قيادة البلد واستثمار موارده.
في معركة عدن الأخيرة، حوّلت التبعية للخارج «المنتصر» عسكرياً (المجلس الانتقالي) إلى مهزوم خائب، باتصال هاتفي فقط من أبو ظبي إلى عيدروس الزبيدي يأمره بالتوقف عند أبواب قصر الرئاسة في معاشيق، لتتحول الحكومة «المهزومة» والمحاصَرة إلى «منتصرة» مع جرعة من الثقة، وجرأة أكبر مما كانت عليه قبل الأحداث. ولم تكتف أبو ظبي بذلك الموقف الصعب الذي وضعت حليفها الطارىء (الزبيدي) فيه، بل استدعت الأخير إليها فور انتهاء مهمته في قيادة معركة عدن، كما كانت تفعل في المرات السابقة عند انتهاء مهمته في تحريك الشارع الجنوبي لإثبات نفوذها مقابل النفوذ السعودي، إذ كان يُستدعى الزبيدي إلى أبو ظبي ليمكث أسابيع وشهوراً، في انتظار أن تُنضِج الدولة المضيفة مهمة أخرى يعود إلى عدن لينفذها.
على المقلب الآخر، يُعتبر ما طلبه رئيس حكومة «الشرعية»، أحمد بن دغر، من «الشقيق العربي» ــــ قاصداً به السعودية ــــ من إرسال لجنة تدقيق مالية للتحقيق في الفساد المالي الذي يُتّهم به هو مع العديد من وزرائه، مساً بالسيادة، لكن ذلك هيّن أمام تشريعه العدوان على بلده. موقف ليس غريباً عن بن دغر الذي كشفت وثيقة مسربة، أخيراً، أن السعودية وعدته، حين كان أميناً عاماً لحزب «المؤتمر الشعبي العام» وواحداً من أبرز رجالات الرئيس السابق علي عبد الله صالح، بتولي مناصب عليا في البلد إذا ما أعطى الأولوية لمصالح المملكة. وبالفعل، رُقّي بن دغر إلى منصب وزير للاتصالات وتقنية المعلومات، ثم عُيّن مستشاراً لرئيس الجمهورية، قبل أن يُكلّف برئاسة حكومة هادي.
وليس وزراء بن دغر أفضل حالاً منه. وزير المغتربين في حكومته، علوي بافقيه، وبدلاً من أن يطلب من المسؤولين السعوديين استثناء المغتربين اليمنيين من الإجراءات القانونية والمالية التي اتُخذت حديثاً، والتي تهدد مئات آلاف اليمنيين بالصرف التعسفي والطرد، بات يبرر الإجراءات السعودية حتى بما لا تريد المملكة نفسها، بقوله إن غالبية العمالة اليمنية في السعودية «غير محترفة» وتأتي من مناطق سيطرة «الحوثيين» شمال اليمن.
لا حدود إذاً لتبعية الوزراء والمسؤولين اليمنيين للسعودية مقابل بقائهم في السلطة ونيلهم منفعة خاصة. تبعية تجلت آخر مظاهرها أمس عندما ألقت أجهزة الاستخبارات والشرطة في محافظة المهرة القبض على سبعة عناصر اتُهموا بـ«القيام بأعمال تخريبية تستهدف زعزعة الأمن والاستقرار في المحافظة». وعوضاً عن أن يوجّه المحافظ المحسوب على الرياض، راجح باكريت، بإخضاع الموقوفين للتحقيق وفق الآليات القانونية المعمول بها في بلده، أمر بتسليمهم للقوات السعودية في المحافظة، ليتم نقلهم فوراً إلى الأراضي السعودية على متن طائرة عسكرية خاصة تابعة لـ«التحالف العربي».
ارتهان شخصيات وقيادات وزعماء قبائل يمنية للسعودية ليس وليد اليوم، بل عمره عقود. طيلة الـ 30 سنة الماضية، كان يدار الملف اليمني عبر اللجنة الخاصة التي يرأسها وزير الدفاع السعودي (سابقاً) سلطان بن عبد العزيز، أما حالياً فعبر جهات متعددة في المملكة (الخارجية والاستخبارات واللجنة الخاصة). وكشفت الوثائق المسربة، في ما مضى، مدى التغول السعودي في مختلف مناحي الحياة العامة في البلد، حيث نجحت السعودية في شراء ذمم وولاءات، واستطاعت تحريك الطبقة السياسية وفق توجيهاتها، كما اخترقت النسيج الاجتماعي والقبلي عمودياً عبر أبرز شيوخ القبائل وأعيانها، مما أتاح لها فرض إملاءاتها والتدخل في كل صغيرة وكبيرة.
والجدير ذكره أيضاً أن عمليات التسريب ليست كلها خارجة عن الإرادة السعودية، بل إن تسريب بعض الوثائق التي كشف النقاب عنها هو من فعل السلطات السعودية نفسها، مثلما حصل لدى تسريب وثائق تثبت استلام 300 شخصية يمنية مبالغ مالية مقابل مشاركتها في ما سمي «مؤتمر الرياض» بداية الحرب على اليمن. والغاية من خطوات من هذا النوع الامعان في إذلال الطبقة السياسية والاجتماعية والقبلية المرتشية، وذلك لقتل ما تبقى من ضمير إنساني أو انتماء وطني لديها، ولإبقائها تحت قيود الارتهان والتبعية. وقد كشفت تلك الوثائق السعودية المسربة، أيضاً، عن جوانب خفية من كيفية صناعة الشخصيات الضعيفة، وتسهيل ارتقائها في السلم الوظيفي أو الاجتماعي وصولاً إلى تبوء مناصب عليا في الدولة، وهو حال العديد من الشخصيات اليمنية.
المصدر: “الأخبار” اللبنانية